الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله (باب من كره أن يكثر) بالتشديد (سواد الفتن والظلم) أي أهلهما، والمراد بالسواد وهو بفتح المهملة وتخفيف الواو الأشخاص، وقد جاء عن ابن مسعود مرفوعا " من كثر سواد قوم فهو منهم، ومن رضي عمل قوم كان شريك من عمل به " أخرجه أبو يعلى، وفيه قصة لابن مسعود، وله شاهد عن أبي ذر في الزهد لابن المبارك غير مرفوع. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ وَغَيْرُهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَنَهَانِي أَشَدَّ النَّهْيِ ثُمَّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ الشرح: قوله (حدثنا حيوة) بفتح المهملة والواو بينهما ياء آخر الحروف ساكنة. قوله (وغيره) كأنه يريد ابن لهيعة، فإنه رواه عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن أيضا، وقد رواه عنه أيضا الليث، لكن أخرج البخاري هذا الحديث في تفسير سوره النساء عن عبد الله بن يزيد شيخه فيه هنا بسنده هذا وقال بعده " رواه الليث عن أبي الأسود " وقد رويناه موصولا في " معجم الطبراني الأوسط " من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث " حدثني الليث عن أبي الأسود عن عكرمة " فذكر الحديث دون القصة، قال الطبراني: لم يروه عن أبي الأسود إلا الليث وابن لهيعة. قلت: ووهم في هذا الحصر لوجود رواية حيوة المذكورة، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن المقبري عن حيوة وحده به، وقد ذكرت من وصل رواية ابن لهيعة في تفسير سورة النساء مع شرح الحديث. وقوله (فيأتي السهم فيرمى به) قيل هو من القلب والتقدير فيرمى بالسهم فيأتي. قلت: ويحتمل أن تكون الفاء الثانية زائدة، وثبت كذلك لأبي ذر في سورة النساء " فيأتي السهم يرمي به". و قوله (أو يضربه) معطوف على " فيأتي " لا على " فيصيب " أي يقتل إما بالسهم. وإما بالسيف، وفيه تخطئة من يقيم بين أهل المعصية باختياره لا لقصد صحيح من إنكار عليهم مثلا أو رجاء إنقاذ مسلم من هلكة، وأن القادر على التحول عنهم لا يعذر كما وقع للذين كانوا أسلموا ومنعهم المشركون من أهلهم من الهجرة ثم كانوا يخرجون مع المشركين لا لقصد قتال المسلمين بل لإيهام كثرتهم في عيون المسلمين فحصلت لهم المؤاخذة بذلك، فرأى عكرمة أن من خرج في جيش يقاتلون المسلمين يأثم وإن لم يقاتل ولا نوى ذلك؛ ويتأيد ذلك في عكسه بحديث " هم القوم لا يشقى بهم جليسهم " كما مضى ذكره في كتاب الرقاق. *3* الشرح: قوله (باب إذا بقي) أي المسلم (في حثالة من الناس) أي ماذا يصنع؟ والحثالة بضم المهملة وتخفيف المثلثة وتقدم تفسيرها في أوائل كتاب الرقاق، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الطبري وصححه ابن حبان من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف بك يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه. قال: فما تأمرني؟ قال: عليك بخاصتك، ودع عنك عوامهم " قال ابن بطال: أشار البخاري إلى هذا الحديث ولم يخرجه لأن العلاء ليس من شرطه فأدخل معناه في حديث حذيفة. قلت: يجتمع معه في قلة الأمانة وعدم الوفاء بالعهد وشدة الاختلاف، وفي كل منهما زيادة ليست في الآخر، وقد ورد عن ابن عمر مثل حديث أبي هريرة أخرجه حنبل بن إسحاق في كتاب الفتن من طريق عاصم بن محمد عن أخيه واقد وتقدم في أبواب المساجد من كتاب الصلاة من طريق واقد وهو محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، سمعت أبي يقول قال عبد الله بن عمر " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبد الله بن عمرو كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس " إلى هنا انتهى ما في البخاري وبقيته عند حنبل مثل حديث أبي هريرة سواء وزاد " قال: فكيف تأمرني يا رسول الله؟ قال: تأخذ بما تعرف وتدع ما تنكر، وتقبل على خاصتك وتدع عوامهم " وأخرجه أبو يعلى من هذا الوجه. وأخرج الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو نفسه من طرق بعضها صحيح الإسناد وفيه " قالوا كيف بنا يا رسول الله؟ قال: تأخذون ما تعرفون " فذكر مثله بصيغة الجمع في جميع ذلك، وأخرجه الطبراني وابن عدي من طريق عبد الحميد بن جعفر بن الحكم عن أبيه عن علباء بكسر المهملة وسكون اللام بعدها موحدة ومد رفعه " لا تقوم الساعة إلا على حثالة الناس " الحديث، وللطبراني من حديث سهل ابن سعد قال " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس فيه عمرو بن العاص وابناه فقال " فذكر مثله وزاد " وإياكم والتلون في دين الله". الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى فِيهَا أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَلَا أُبَالِي أَيُّكُمْ بَايَعْتُ لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامُ وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ وَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا الشرح: قوله (حدثنا محمد بن كثير) تقدم بهذا السند في كتاب الرقاق في " باب رفع الأمانة " وإن الجذر الأصل وتفتح جيمه وتكسر. قوله (ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة) كذا في هذه الرواية بإعادة ثم، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن، والمراد بالسنن ما يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واجبا كان أو مندوبا. قوله (وحدثنا عن رفعها) هذا هو الحديث الثاني الذي ذكر حذيفة أنه ينتظره وهو رفع الأمانة أصلا حتى لا يبقى من يوصف بالأمانة إلا النادر، ولا يعكر على ذلك ما ذكره في آخر الحديث مما يدل على قلة من ينسب للأمانة فإن ذلك بالنسبة إلى حال الأولين، فالذين أشار إليهم بقوله " ما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا " هم من أهل العصر الأخير الذي أدركه والأمانة فيهم بالنسبة إلى العصر الأول أقل، وأما الذي ينتظره فإنه حيث تفقد الأمانة من الجميع إلا النادر. قوله (فيظل أثرها) أي يصير وأصل " ظل " ما عمل بالنهار ثم أطلق على كل وقت، وهي هنا على بابها لأنه ذكر الحالة التي تكون بعد النوم وهي غالبا تقع عند الصبح، والمعنى أن الأمانة تذهب حتى لا يبقى منها إلا الأثر الموصوف في الحديث. قوله (مثل أثر الوكت) بفتح الواو وسكون الكاف بعدها مثناة، تقدم تفسيره في الرقاق وأنه سواد في اللون، وكذا المجل وهو بفتح الميم وسكون الجيم أثر العمل في اليد. قوله (فنفط) بكسر الفاء بعد النون المفتوحة أي صار منتفطا وهو المنتبر بنون ثم مثناة ثم موحدة يقال انتبر الجرح وانتفط إذا ورم وامتلأ ماء وحاصل الخبر أنه أنذر برفع الأمانة وأن الموصوف بالأمانة يسلبها حتى يصير خائنا بعد أن كان أمينا، وهذا إنما يقع على ما هو شاهد لمن خالط أهل الخيانة فإنه يصير خائنا لأن القرين يقتدي بقرينه. قوله (ولقد أتى علي زمان إلخ) يشير إلى أن حال الأمانة أخذ في النقص من ذلك الزمان، وكانت وفاة حذيفة في أول سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان بقليل، فأدرك بعض الزمن الذي وقع فيه التغير فأشار إليه، قال ابن التين: الأمانة كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من المكلف. وعن ابن عباس: هي الفرائض التي أمروا بها ونهوا عنها، وقيل هي الطاعة، وقيل التكاليف، وقيل العهد الذي أخذه الله على العباد. وهذا الاختلاف وقع في تفسير الأمانة المذكورة في الآية (إنا عرضنا الأمانة) وقال صاحب التحرير: الأمانة المذكورة في الحديث هي الأمانة المذكورة في الآية وهي عين الإيمان، فإذا استمكنت في القلب قام بأداء ما أمر به واجتنب ما نهي عنه. وقال ابن العربي: المراد بالأمانة في حديث حذيفة الإيمان، وتحقيق ذلك فيما ذكر من رفعها أن الأعمال السيئة لا تزال تضعف الإيمان، حتى إذا تناهى الضعف لم يبق إلا أثر الإيمان، وهو التلفظ باللسان والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب، فشبهه بالأثر في ظاهر البدن، وكني عن ضعف الإيمان بالنوم، وضرب مثلا لزهوق الإيمان عن القلب حالا بزهوق الحجر عن الرجل حتى يقع بالأرض. قوله (ولا أبالي أيكم بايعت) تقدم في الرقاق أن مراده المبايعة في السلع ونحوها، لا المبايعة بالخلافة ولا الإمارة. وقد اشتد إنكار أبي عبيد وغيره على من حمل المبايعة هنا على الخلافة وهو واضح، ووقع في عبارته أن حذيفة كان لا يرضى بأحد بعد عمر يعني في الخلافة وهي مبالغة، وإلا فقد كان عثمان ولاه على المدائن وقد قتل عثمان وهو عليها، وبايع لعلي وحرض على المبايعة له والقيام فيه نصره، ومات في أوائل خلافته كما مضى في " باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما " والمراد أنه لوثوقه بوجود الأمانة في الناس أولا كان يقدم على مبايعة من اتفق من غير بحث عن حاله، فلما بدا التغير في الناس وظهرت الخيانة صار لا يبايع إلا من يعرف حاله، ثم أجاب عن إيراد مقدر كأن قائلا قال له: لم تزل الخيانة موجودة لأن الوقت الذي أشرت إليه كان أهل الكفر فيه موجودين وهم أهل الخيانة، فأجاب بأنه وإن كان الأمر كذلك لكنه كان يثق بالمؤمن لذاته وبالكافر لوجود ساعيه وهو الحاكم الذي يحكم عليه، وكانوا لا يستعملون في كل عمل قل أو جل إلا المسلم، فكان واثقا بإنصافه وتخليص حقه من الكافر إن خانه، بخلاف الوقت الأخير الذي أشار إليه فإنه صار لا يبايع إلا أفرادا من الناس يثق بهم. وقال ابن العربي: قال حذيفة هذا القول لما تغيرت الأحوال التي كان يعرفها على عهد النبوة والخليفتين فأشار إلى ذلك بالمبايعة، وكني عن الإيمان بالأمانة وعما يخالف أحكامه بالخيانة، والله أعلم. *3* الشرح: قوله (باب التعرب في الفتنة) بالعين المهملة والراء الثقيلة أي السكنى مع الأعراب بفتح الألف، وهو أن ينتقل المهاجر من البلد التي هاجر منها فيسكن البدو فيرجع بعد هجرته أعرابيا، وكان إذ ذاك محرما إلا إن أذن له الشارع في ذلك، وقيده بالفتنة إشارة إلى ما ورد من الإذن في ذلك عند حلول الفتن كما في ثاني حديثي الباب، وقيل بمنعه في زمن الفتنة لما يترتب عليه من خذلان أهل الحق، ولكن نظر السلف اختلف في ذلك: فمنهم من آثر السلامة واعتزل الفتن كسعد ومحمد بن مسلمة وابن عمر في طائفة، ومنهم من باشر القتال وهم الجمهور. ووقع في رواة كريمة " التعزب " بالزاي وبينهما عموم وخصوص. وقال صاحب المطالع: وجدته بخطي في البخاري بالزاي وأخشى أن يكون وهما، فإن صح فمعناه البعد والاعتزال. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ تَعَرَّبْتَ قَالَ لَا وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِي فِي الْبَدْوِ وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ خَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ إِلَى الرَّبَذَةِ وَتَزَوَّجَ هُنَاكَ امْرَأَةً وَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِلَيَالٍ فَنَزَلَ الْمَدِينَةَ الشرح: قوله (حدثنا حاتم) بمهملة ثم مثناة هو ابن إسماعيل الكوفي نزيل المدينة، ويزيد بن أبي عبيد في رواية القعنبي عن حاتم " أنبأنا يزيد بن أبي عبيد " أخرجها أبو نعيم. قوله (عن سلمة بن الأكوع أنه دخل على الحجاج) هو ابن يوسف الثقفي الأمير المشهور، وكان ذلك لما ولى الحجاج إمرة الحجاز بعد قتل ابن الزبير فسار من مكة إلى المدينة وذلك في سنة أربع وسبعين. قوله (ارتددت على عقبيك) كأنه أشار إلى ما جاء من الحديث في ذلك كما تقدم عند عد الكبائر في كتاب الحدود، فإن من جملة ما ذكر في ذلك " من رجع بعد هجرته أعرابيا " وأخرج النسائي من حديث ابن مسعود رفعه " لعن الله آكل الربا وموكله " الحديث وفيه " والمرتد بعد هجرته أعرابيا " قال ابن الأثير في النهاية: كان من رجع بعد هجرته إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد. وقال غيره: كان ذلك من جفاء الحجاج حيث خاطب هذا الصحابي الجليل بهذا الخطاب القبيح من قبل أن يستكشف عن عذره، ويقال إنه أراد قتله فبين الجهة التي يريد أن يجعله مستحقا للقتل بها. وقد أخرج الطبراني من حديث جابر بن سمرة رفعه " لعن الله من بدا بعد هجرته " إلا في الفتنة فإن البدو خير من المقام في الفتنة. قوله (قال لا) أي لم أسكن البادية رجوعا عن هجرتي (ولكن) بالتشديد والتخفيف. قوله (أذن لي في البدو) وفي رواية حماد بن مسعدة عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البداوة فأذن له أخرجه الإسماعيلي، وفي لفظ له " استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم " وقد وقع لسلمة في ذلك قصة أخرى مع غير الحجاج، فأخرج أحمد من طريق سعيد بن إياس بن سلمة أن أباه حدثه قال " قدم سلمة المدينة فلقيه بريدة بن الخصيب فقال: ارتددت عن هجرتك، فقال: معاذ الله، إني في إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: ابدوا يا أسلم - أي القبيلة المشهورة التي منها سلمة وأبو برزة وبريدة المذكور - قالوا: إنا نخاف أن يقدح ذلك في هجرتنا، قال: أنتم مهاجرون حيث كنتم " وله شاهد من رواية عمرو بن عبد الرحمن بن جرهد قال " سمعت رجلا يقول لجابر: من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنس بن مالك وسلمة بن الأكوع، فقال رجل: أما سلمة فقد ارتد عن هجرته، فقال: لا تقل ذلك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأسلم: ابدوا، قالوا إنا نخاف أن نرتد بعد هجرتنا، قال: أنتم مهاجرون حيث كنتم " وسند كل منهما حسن. قوله (وعن يزيد بن أبي عبيد) هو موصول بالسند المذكور. قوله (لما قتل عثمان بن عفان خرج سلمة إلى الربذة) بفتح الراء والموحدة بعدها معجمة موضع بالبادية بين مكة والمدينة. ويستفاد من هذه الرواية مدة سكنى سلمة البادية وهي نحو الأربعين سنة، لأن قتل عثمان كان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وموت سلمة سنة أربع وسبعين على الصحيح. قوله (فلم يزل بها) في رواية الكشميهني " هناك " (حتى قبل أن يموت بليال) كذا فيه بحذف " كان " بعد قوله " حتى " وقبل قوله " قبل " وهي مقدرة وهو استعمال صحيح. قوله (نزل المدينة) في رواية المستملي والسرخسي " فنزل " بزيادة فاء، وهذا يشعر بأن سلمة لم يمت بالبادية كما جزم به يحيى بن عبد الوهاب بن منده في الجزء الذي جمعه في آخر من مات من الصحابة بل مات بالمدينة كما تقتضيه رواية يزيد بن أبي عبيد هذه وبذلك جزم أبو عبد الله بن منده في " معرفة الصحابة " وفي الحديث أيضا رد على من أرخ وفاة سلمة سنة أربع وستين فإن ذلك كان في آخر خلافة يزيد بن معاوية ولم يكن الحجاج يومئذ أميرا ولا ذا أمر ولا نهي، وكذا فيه رد على الهيثم بن عدي حيث زعم أنه مات في آخر خلافة معاوية وهو أشد غلطا من الأول إن أراد معاوية بن أبي سفيان وإن أراد معاوية بن يزيد بن معاوية فهو عين القول الذي قبله، وقد مشى الكرماني على ظاهره فقال: مات سنة ستين وهي السنة التي مات فيها معاوية بن أبي سفيان، كذا جزم به والصواب خلافه، وقد اعترض الذهبي على من زعم أنه عاش ثمانين سنة ومات سنة أربع وسبعين لأنه يلزم منه أن يكون له في الحديبية اثنتا عشرة سنة وهو باطل لأنه ثبت أنه قاتل يومئذ وبايع. قلت: وهو اعتراض متجه لكن ينبغي أن ينصرف إلى سنة وفاته لا إلى مبلغ عمره فلا يلزم منه رجحان قول من قال مات سنة أربع وستين فإن حديث جابر يدل على أنه تأخر عنها لقوله لم يبق من الصحابة إلا أنس وسلمة، وذلك لائق بسنة أربع وسبعين فقد عاش جابر بن عبد الله بعد ذلك إلى سنة سبع وسبعين على الصحيح وقيل مات في التي بعدها وقيل قبل ذلك ثم ذكر حديث أبي سعيد " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم " الحديث وفي آخره " يفر بدينه من الفتن " وقد تقدم بعض شرحه في " باب العزلة " من كتاب الرقاق، وأشار إلى حمل صنيع سلمة على ذلك لكونه لما قتل عثمان ووقعت الفتن اعتزل عنها وسكن الربذة وتأهل بها ولم يلابس شيئا من تلك الحروب، والحق حمل عمل كل أحد من الصحابة المذكورين على السداد فمن لابس القتال اتضح له الدليل لثبوت الأمر بقتال الفئة الباغية وكانت له قدرة على ذلك، ومن قعد لم يتضح له أي الفئتين هي الباغية وإذا لم يكن له قدرة على القتال. وقد وقع لخزيمة بن ثابت أنه كان مع علي وكان مع ذلك لا يقاتل فلما قتل عمار قاتل حينئذ وحدث بحديث " يقتل عمارا الفئة الباغية " أخرجه أحمد وغيره، وقوله "يوشك " هو بكسر الشين المعجمة أي يسرع وزنه ومعناه، ويجوز يوشك بفتح الشين. وقال الجوهري هي لغة رديئة، وقوله "أن يكون خير مال المسلم " يجوز في خير الرفع والنصب فإن كان غنم بالرفع فالنصب وإلا فالرفع وتقدم بيان ذلك في كتاب الإيمان أول الكتاب، والأشهر في الرواية غنم بالرفع، وقد جوز بعضهم رفع خير مع ذلك على أن يقدر في يكون ضمير الشأن وغنم وخير مبتدأ وخبر ولا يخفى تكلفه، وقوله "شعف الجبال " بفتح الشين المعجمة والعين المهملة بعدها فاء جمع شعفة كأكم وأكمة رءوس الجبال والمرعى فيها والماء ولا سيما وفي بلاد الحجاز أيسر من غيرها، ووقع عند بعض رواة الموطأ بضم أوله وفتح ثانيه وبالموحدة بدل الفاء جمع شعبة وهي ما انفرج بين جبلين ولم يختلفوا في أن الشين معجمة، ووقع لغير مالك كالأول لكن السين مهملة وسبق بيان ذلك في أواخر علامات النبوة، وقد وقع في حديث أبي هريرة عند مسلم نحو هذا الحديث ولفظه " ورجل في رأس شعبة من هذه الشعاب". الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ الشرح: قوله (يفر بدينه من الفتن) قال الكرماني هذه الجملة حالية وذو الحال الضمير المستتر في يتبع أو المسلم إذا جوزنا الحال من المضاف إليه فقد وجد شرطه وهو شده الملابسة وكأنه جزء منه، واتحاد الخير بالمال واضح، ويجوز أن تكون استئنافية وهو واضح انتهى. والخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه، وقد اختلف السلف في أصل العزلة فقال الجمهور الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعيادة وغير ذلك. وقال قوم العزلة أولى لتحقق السلامة بشرط معرفة ما يتعين، وقد مضى طرف من ذلك في " باب العزلة " من كتاب الرقاق وقال النووي المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر فالعزلة أولى. وقال غيره: يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين ومنهم من يترجح ليس الكلام فيه بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأحوال فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فمن يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه إما عينا وإما كفاية بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة فإن وقعت الفتنة ترجحت العزلة لما ينشأ فيها غالبا من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها كما قال الله تعالى *3* الشرح: قوله (باب التعوذ من الفتن) قال ابن بطال: في مشروعية ذلك الرد على من قال: اسألوا الله الفتنة فإن فيها حصاد المنافقين، وزعم أنه ورد في حديث وهو لا يثبت رفعه بل الصحيح خلافه. قلت: أخرجه أبو نعيم من حديث علي بلفظ " لا تكرهوا الفتنة في آخر الزمان فإنها تبير المنافقين " وفي سنده ضعيف ومجهول، وقد تقدم في الدعوات عدة تراجم للتعوذ من عدة أشياء منها الاستعاذة من فتنة الغنى والاستعاذة من فتنة الفقر والاستعاذة من أرذل العمر ومن فتنة الدنيا ومن فتنة النار وغير ذلك، قال العلماء: أراد صلى الله عليه وسلم مشروعية ذلك لأمته. الحديث: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمِنْبَرَ فَقَالَ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُ لَكُمْ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى يُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ أَبِي فَقَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا دُونَ الْحَائِطِ فَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَقَالَ عَبَّاسٌ النَّرْسِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا وَقَالَ كُلُّ رَجُلٍ لَافًّا رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي وَقَالَ عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ أَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَوْأَى الْفِتَنِ و قَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ وَمُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا وَقَالَ عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ الشرح: قوله (هشام) هو الدستوائي. قوله (عن أنس) في رواية سليمان التيمي عن قتادة أن أنسا حدثهم. قوله (أحفوه) أي ألحوا عليه في السؤال، وعند الإسماعيلي في رواية من هذا الوجه " ألحفوه أو أحفوه بالمسألة". قوله (ذات يوم المنبر) في رواية الكشميهني " ذات يوم على المنبر". قوله (فإذا كل رجل رأسه في ثوبه) في رواية الكشميهني " لاف رأسه في ثوبه " وتقدم في تفسير المائدة من وجه آخر " لهم خنين " وهو بالمعجمة أي من البكاء. قوله (فأنشأ رجل) أي بدأ الكلام. وفي رواية الإسماعيلي " فقام رجل " وفي لفظ له " فأتى رجل". قوله (كان إذا لاحى) بفتح المهملة من الملاحاة وهي المماراة والمجادلة. قوله (أبوك حذافة) في رواية معتمر " سمعت أبي عن قتادة " عند الإسماعيلي، واسم الرجل خارجة. قلت: والمعروف أن السائل عبد الله أخو خارجة، وتقدم في تفسير المائدة من قال أنه قيس بن حذافة، وعند أحمد من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رفعه " لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به " فقال عبد الله بن حذافة: من أبي يا رسول الله؟ قال: حذافة بن قيس، فرجع إلى أمه فقالت له: ما حملك على الذي صنعت؟ فقد كنا في جاهلية، فقال: إني كنت لأحب أن أعلم من هو أبي من كان من الناس. قوله (ثم أنشأ عمر) كذا وقع في هذه الرواية، وتقدم في تفسير سورة المائدة من طريق أخرى أتم من هذا، وعند الإسماعيلي من طريق معتمر المذكور من الزيادة " فأرم " براء مفتوحة ثم ميم ثقيلة " وخشوا أن يكونوا بين يدي أمر عظيم، قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فلا أرى كل رجل إلا قد دس رأسه في ثوبه يبكي، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سلوني " فذكر الحديث. وعند أحمد عن أبي عامر العقدي عن هشام بعد قوله أبوك حذافة " فقال رجل: يا رسول الله في الجنة إنا أو في النار؟ قال: في النار " وسيأتي ذلك في كتاب الاعتصام من رواية الزهري عن أنس. قوله (من سوء الفتن) بضم السين المهملة بعدها واو ثم همزة، وللكشميهني " شر " بفتح المعجمة وتشديد الراء. قوله (صورت الجنة والنار) في رواية الكشميهني " صورت لي". قوله (دون الحائط) أي بينه وبين الحائط، وزاد في رواية الزهري عن أنس " فلم أر كاليوم في الخير والشر " وسيأتي بيانه في كتاب الاعتصام. قوله (قال قتادة: يذكر هذا الحديث عند هذه الآية قوله (وقال عباس) هو بموحدة ومهملة وهو ابن الوليد و (النرسي) بفتح النون ثم سين مهملة، ومضى في علامات النبوة له حديث وفي أواخر المغازي في " باب بعث معاذ وأبي موسى إلى اليمين " آخر، ومن جاء بهذه الصورة فيما عدا هذه المواضع الثلاثة في البخاري فهو عياش بن الوليد الرقام بمثناة تحتانية وآخره معجمة، ويزيد شيخه هو ابن زريع، وسعيد هو ابن أبي عروبة، وقد وصله أبو نعيم في " المستخرج " من رواية محمد ابن عبد الله بن رسته بضم الراء وسكون المهملة بعدها مثناة مفتوحة قال " حدثنا عباس بن الوليد به " وذلك يؤيد كونه بالمهملة لأن الذي بالشين المعجمة ليس فيه الألف واللام. قوله (بهذا) أي بهذا الحديث الماضي، ثم بين أن فيه زيادة قوله " لافا " فدل على أن زيادتها في الأول وهم من الكشميهني. قوله (وقال عائذا إلخ) بين أن في رواية سعيد بالشك في سوء وسوأي. قوله (عائذا بالله) وهكذا وقع بالنصب وهو على الحال أي أقول ذلك عائذا أو على المصدر أي عياذا، وجاء في رواية أخرى بالرفع أي أنا عائذ. قوله (وقال لي خليفة) هو ابن خياط العصفري، وأكثر ما يخرج عنه البخاري يقع بهذه الصيغة لا يقول حدثنا ولا أخبرنا، وكأنه أخذ ذلك عنه في المذاكرة. وقوله سعيد هو ابن أبي عروبة ومعتمر هو ابن سليمان التيمي. قوله (عن أبيه) يعني عن أبي معتمر، وذكر هذه الطريق الأخرى لقوله في آخره " من شر الفتن " بالشين المعجمة والراء، وقد تقدم التنبيه على المواضع التي ذكر فيها هذا الحديث في تفسير المائدة وأن بقية شرحه يأتي في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم الفتنة من قبل المشرق) أي من جهته، ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول ذكره من وجهين، وقد ذكرت في شرح حديث أسامة في أوائل كتاب الفتن وجه الجمع بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم "إني لأرى الفتن خلال بيوتكم " وكان خطابه ذلك لأهل المدينة. الحديث: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ إِلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ فَقَالَ الْفِتْنَةُ هَا هُنَا الْفِتْنَةُ هَا هُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ أَوْ قَالَ قَرْنُ الشَّمْسِ الشرح: قوله (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام إلى جنب المنبر) في رواية عبد الرزاق عن معمر عند الترمذي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على المنبر " وفي رواية شعيب عن الزهري كما تقدم في مناقب قريش بسنده " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر " وفي رواية يونس بن يزيد عن الزهري عند مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو مستقبل المشرق". قوله (الفتنة هاهنا، الفتنة هاهنا) كذا فيه مرتين. وفي رواية يونس " ها إن الفتنة هاهنا أعادها ثلاث مرات". قوله (من حيث يطلع قرن الشيطان، أو قال قرن الشمس) كذا هنا بالشك. وفي رواية عبد الرزاق " هاهنا أرض الفتن وأشار إلى المشرق يعني حيث يطلع قرن الشيطان " وفي رواية شعيب " ألا إن الفتنة هاهنا يشير إلى المشرق حيث يطلع قرن الشيطان " وفي رواية يونس مثل معمر لكن لم يقل " أو قال قرن الشمس " بل قال " يعني المشرق " ولمسلم من رواية عكرمة بن عمار عن سالم " سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده نحو المشرق ويقول: ها إن الفتنة هاهنا ثلاثا حيث يطلع قرن الشيطان " وله من طريق حنظلة عن سالم مثله لكن قال " إن الفتنة هاهنا ثلاثا " وله من طريق فضيل بن غزوان " سمعت سالم بن عبد الله ابن عمر يقول: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم الكبيرة، سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الفتنة تجيء من هاهنا، وأومأ بيده نحو المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان " كذا فيه بالتثنية، وله في صفة إبليس من طريق مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مثل سياق حنظلة سواء، وله نحوه من رواية سفيان الثوري عن عبد الله بن دينار أخرجه في الطلاق ثم ساق هنا من رواية الليث عن نافع عن ابن عمر مثل رواية يونس إلا أنه قال " ألا إن الفتنة هاهنا " ولم يكرر، وكذا لمسلم، وأورده الإسماعيلي من رواية أحمد بن يونس عن الليث فكررها مرتين. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي نَجْدِنَا قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي نَجْدِنَا فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ الشرح: قوله (عن ابن عون) هو عبد الله (عن نافع عن ابن عمر قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اللهم بارك لنا في شامنا الحديث) كذا أورده عن علي بن عبد الله عن أزهر السمان وأخرجه الترمذي عن بشر بن آدم بن بنت أزهر حدثني جدي أزهر بهذا السند " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ومثله للإسماعيلي من رواية أحمد بن إبراهيم الدورقي عن أزهر، وأخرجه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عون عن أبيه كذلك، وقد تقدم من وجه آخر عن ابن عون في الاستسقاء موقوفا وذكرت هناك الاختلاف فيه. قوله (قالوا يا رسول الله: وفي نجدنا، فأظنه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان) وقع في رواية الترمذي والدورقي بعد قوله وفي نجدنا " قال اللهم بارك لنا في شامنا وبارك لنا في يمننا قال وفي نجدنا؟ قال: هناك " فذكره لكن شك هل قال بها أو منها. وقال يخرج بدل يطلع، وقد وقع في رواية الحسين بن الحسن في الاستسقاء مثله في الإعادة مرتين. وفي رواية ولد ابن عون " فلما كان الثالثة أو الرابعة قالوا يا رسول الله وفي نجدنا؟ قال بها الزلازل والفتن ومنها يطلع قرن الشيطان " قال المهلب: إنما ترك صلى الله عليه وسلم الدعاء لأهل المشرق ليضعفوا عن الشر الذي هو موضوع في جهتهم لاستيلاء الشيطان بالفتن وأما قوله " قرن الشمس " فقال الداودي: للشمس قرن حقيقة ويحتمل أن يريد بالقرن قوة الشيطان وما يستعين به على الإضلال، وهذا أوجه، وقيل إن الشيطان يقرن رأسه بالشمس عند طلوعها ليقع سجود عبدتها له قيل ويحتمل أن يكون للشمس شيطان تطلع الشمس بين قرنيه. وقال الخطابي: القرن الأمة من الناس يحدثون بعد فناء آخرين، وقرن الحية أن بضرب المثل فيما لا يحمد من الأمور. وقال غيره كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق فكان ذلك سببا للفرقة بين المسلمين وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة. وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها وهي مشرق أهل المدينة، وأصل النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها وتهامة كلها من الغور ومكة من تهامة انتهى وعرف بهذا وهاء ما قاله الداودي أن نجدا من ناحية العراق فإنه توهم أن نجدا موضع مخصوص، وليس كذلك بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى المرتفع نجدا والمنخفض غورا. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ بَيَانٍ عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَرَجَوْنَا أَنْ يُحَدِّثَنَا حَدِيثًا حَسَنًا قَالَ فَبَادَرَنَا إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدِّثْنَا عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَاللَّهُ يَقُولُ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ الدُّخُولُ فِي دِينِهِمْ فِتْنَةً وَلَيْسَ كَقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ الشرح: قوله (حدثنا إسحاق الواسطي) هو ابن شاهين، وخالد هو ابن عبد الله، وبيان بموحدة ثم تحتانية خفيفة هو ابن عمرو، ووبرة بفتح الواو والموحدة عند الجميع وبه جزم ابن عبد البر. وقال عياض ضبطناه في مسلم بسكون الموحدة. قوله (أن يحدثنا حديثا حسنا) أي حسن اللفظ يشتمل على ذكر الترجمة والرخصة، فشغله الرجل فصده عن إعادته حتى عدل إلى التحدث عن الفتنة. قوله (فقام إليه رجل) تقدم في الأنفال أن اسمه حكيم، أخرجه البيهقي من رواية زهير بن معاوية عن بيان " أن وبرة حدثه " فذكره، وفيه " فمررنا برجل يقال له حكيم". قوله (يا أبا عبد الرحمن) هي كنية عبد الله بن عمر. قوله (حدثنا عن القتال في الفتنة والله يقول) يريد أن يحتج بالآية على مشروعية القتال في الفتنة وأن فيها الرد على من ترك ذلك كابن عمر، وقوله "ثكلتك أمك " ظاهره الدعاء وقد يرد مورد الزجر كما هنا، وحاصل جواب ابن عمر له أن الضمير في قوله تعالى (وقاتلوهم) للكفار، فأمر المؤمنين بقتال الكافرين حتى لا يبقى أحد يفتن عن دين الإسلام ويرتد إلى الكفر، ووقع نحو هذا السؤال من نافع بن الأزرق وجماعة لعمران ابن حصين فأجابهم بنحو جواب ابن عمر أخرجه ابن ماجه، وقد تقدم في سورة الأنفال من رواية زهير بن معاوية عن بيان بزيادة " فقال " بدل قوله " وكان الدخول في دينهم فتنة، فكان الرجل يفتن عن دينه إما يقتلونه وإما يوثقونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة " أي لم يبق فتنة أي من أحد من الكفار لأحد من المؤمنين. ثم ذكر سؤاله عن علي وعثمان وجواب ابن عمر. وقوله هنا " وليس كقتالكم على الملك " أي في طلب الملك، يشير إلى ما وقع بين مروان ثم عبد الملك ابنه وبين ابن الزبير وما أشبه ذلك، وكان رأي ابن عمر ترك القتال في الفتنة ولو ظهر أن إحدى الطائفتين محقة والأخرى مبطلة، وقيل الفتنة مختصة بما إذا وقع القتال بسبب التغالب في طلب الملك، وأما إذا علمت الباغية فلا تسمى فتنة وتجب مقاتلتها حتى ترجع إلى الطاعة؛ وهذا قول الجمهور.
|